عذاب القبر
الحمد
لله رب العالمين الذي بيده الملك ومقاليد الأمور ، وبخلقه الخيرات والشرور
، مخرج أوليائه من الظلمات إلى النور ، ومورد أعدائه ورطات الغرور
والمنوّر على المتقين القبور ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله
وأصحابه الطيبين الطاهرين الذين سلموا من دار الغرور وقهروا العدو الغرور
فنالوا السعادة والبهجة والحبور .
أما بعد فيقول عزوجل في القرءان
الكريم : ] النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال
فرعون أشد العذاب [ ( سورة غافر / ءاية 46 ) .
اعلم رحمنا الله
وإياك أن من معاني الشهادة الثانية أي أشهد أن محمداً رسول الله أن يصدق
الإنسان بعذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين منكر ونكير عليهما السلام ، فمن
أنكر عذاب القبر كذب القرءان ومن كذب القرءان كفر ، فهذه الآية فيها إثبات
عذاب القبر وهي صريحة لأن الله تعالى قال : ] النار يعرضون عليها غدواً
وعشياً ويوم تقوم الساعة [
معناه أن ءال فرعون أي أتباعه الذين
اتبعوه على الكفر والشرك يعرضون على النار في البرزخ أي في مدة القبر
والبرزخ ما بين الموت إلى البعث يعرضون على النار عرضاً من غير أن يدخلوها
حتى يمتلئوا رعباً أول النهار مرة وءاخر النهار مرة ووقت الغداة من الصبح
إلى الضحى وأما العشي فهو وقت العصر ءاخر النهار ويوم تقوم الساعة أي يقال
للملائكة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب وءال فرعون هم الذين عبدوه واتبعوه
في أحكامه الجائرة ليس معناه أقاربه ثم هناك ءاية أخرى تثبت عذاب القبر؛
فقد قال عز وجل : ] ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم
القيامة أعمى [( سورة طه / ءاية 124 ) .
المعنى أن الكفار الذين
أعرضوا عن الإيمان بالله تعالى إذا ماتوا يتعذبون في قبورهم وليس المراد
بـ ( معيشة ضنكا ) معيشة قبل الموت إنما المراد حالهم في البرزخ ، وكلمة (
ذكري ) هنا معناها الإيمان بالله سبحانه وبالرسول ليس المراد بها الذكر
المعروف وهو قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
ونحو ذلك . وهذه الآية عُرف أن المراد منها عذاب القبر من الحديث المرفوع
إلى النبي الذي فسر هذه الآية ( معيشة ضنكا ) بعذاب القبر رواه ابن حبان
وفي هذا قال الرسول الكريم لأصحابه : (( هل تدرون في ماذا أنزلت ] فإن له
معيشة ضنكا [ قالوا : الله ورسوله أعلم : قال عذاب الكافر في قبره )) ...
الحديث .
وفي هذا دليل أيضاً على أن الميت في القبر بعد عودة
الروح إليه يكون له إحساس بالعذاب إن كان من المعذبين للكفر أو للمعاصي .
وقد قال الرسول : (( القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة
)) رواه الترمذي من حديث أبي سعيد . وقد قال مسروق رحمه الله : (( ما غبطت
أحداً ما غبطت مؤمناً في اللحد ، قد استراح من نصب الدنيا وأمِِنَ عذاب
الله تعالى )) . وقد حدّث ثابت البناني رحمه الله قال : دخلت المقابر فلما
قصدت الخروج منها فإذا بصوت قائل يقول : يا ثابت لا يغرنَّك صموت أهلها
فكم من نفس مغمومة فيها .
ويروى أن فاطمة بنت الحسين ضربت على
قبر زوجها الحسن بن الحسن واعتكفت سنة فلما مضت السنة قلعوا الفسطاط ودخلت
المدينة فسمعوا صوتاً من جانب البقيع يقول : هل وجدوا ما فقدوا فسمعوا من
الجانب الأخر بل يئسوا فانقلبوا .
وفي هذا عبرة للمعتبرين جعلنا الله من المتعظين المعتبرين ، وقد روي أن الفرزدق وقف على قبر زوجته بعد دفنها ثم أنشد .
أخاف وراء القبر لم تعافيني أشد من القبر إلتهاباً وأضيقاً
إذا جاءني يوم القيامة قائد عنيف وسوَّاق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد ءادم من مشى إلى النار مغلول القلادة أزرقا
يعاد إلى نار الجحيم مسربلاً سرابيل قطران لباساً محرقا
ولنرجع
قليلاً إلى الآيتين السابقتين فيتبين أنهما واردتان في عذاب القبر لكل
الكفار أما العصاة المسلمون من أهل الكابئر الذين ماتوا قبل التوبة فهم
صنفان : صنف يعفيهم الله من عذاب القبر وصنف يعذبهم ثم ينقطع عنهم ويُؤخّر
لهم بقية عذابهم إلى الآخرة .
وليعلم أنه لا يقال إن الميت إذا كان
يرى في القبر في هيئة النائم ولا يُرى عليه شيء من الاضطرابات ولا يصرخ
فإذاً هو ليس في عذاب ؛ فقد قال بعد الفقهاء : (( عدم الوجدان لا يستلزم
عدم الوجود )) فإذا نحن لم نرى الشيء بأعيننا فليس معناه أن هذا الشيء ليس
موجوداً ؛ فكثير من الأمور أخفاها الله عنّا وبعضها يكشفها الله لبعض
عباده .
تأكد عذاب القبر بسبب الغيبة وعدم الاستنـزاه من البول
روى
البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن ابن عباس : مرّ رسول الله على قبرين
فقال : (( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير إثم قال بلى أما أحدهما فكان
يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستـتر من البول )) ثم دعا بعسيب رطب
فشقه اثنين فغرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً ثم قال: (( لعله يخفف
عنهما )) فهذا
الحديث بعد كتاب الله حجّة في إثبات عذاب القبر ،
الرسول مر على قبرين فقال : (( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير إثم ))
ثم قال : (( بلى ))
إثبات عذاب القبر وعود الروح إلى الجسد
أي
بحسب ما يرى الناس ليس ذنبهما شيئاً كبيراً لكنه في الحقيقة ذنب كبير لذلك
قال : (( بلى أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة )) وهي نقل الكلام بين اثنين
للإفساد بينهما ، يقول لهذا فلان قال عنك كذا ويقول للآخر : فلان قال عنك
كذا ليوقع بينهما الشحناء ، وأما الآخر فكان لا يستنـزه من البول أي كان
يتلوث بالبول وهذا من الكبائر فقد قال عليه الصلاة والسلام : (( استنـزهوا
من البول فإنّ عامة عذاب القبر منه )) رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة .
ومعناه : تحفظوا من البول لئلا يلوثكم ، معناه لا تلوثوا ثيابكم وجلدكم به
لأن أكثر عذاب القبر منه . هذان الأمران بحسب ما يراه الناس ليسا ذنباً
كبيراً لكنهما في الحقيقة عند الله ذنب كبير ، فالرسول رءاهما بحالة شديدة
وأنهما يُعذبان وليس من شرط العذاب أن تمسَّ جسده النار ، الله جعل عذاباً
كثيراً غير النار في القبر، الرسول رأى ذلك وبعض المؤمنين الصالحين يرون
ذلك ويرون النعيم والأدلة كثيرة نذكر منها حديث رواه ابن حبان أن التقي
بعد سؤال منكر ونكير عليهما السلام قال الرسول :
(( ثم يُفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين ذراعاً ))
والذراع الشرعي من رءوس الأصابع إلى المرفق ، حوالي نصف متر وينور له فيه
ويقال له : نم كنوم العروس الذي لا يوقظه إلا أحبُّ أهله إليه حتى يبعثه
الله من مضجعه ذلك ، كذلك التقي يشم من رائحة الجنة ويرى مقعده من الجنة
الذي يتبوءه بعد الحساب وذلك أنّ روحه تؤخذ إلى مكان قرب الجنة فيرى مقعده
فيعرف فضل الإسلام حين ذلك معرفة عيانية كما كان يعرف في الدنيا معرفة
يقينية قلبية .
وبعض المتقين يزيد في النعيم بأن يُوسَّع قبره مد
البصر كما حصل للصاحبي الجليل العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه الذي كان من
أكابر الأولياء لما نبشوا قبره بعد دفنه في أرض مسبعة لينقلوه إلى مكان
أخر وجدوا قبره يتلاطم بالأنوار ، كذلك من النعيم يأتيه من نسيم الجنة لما
يُفتح له في قبره باب إلى الجنة كذلك يُملأ قبره خضرة أي يوضع في قبره من
نبات الجنة الأخضر وهذا النعيم كله حقيقي ليس وهماً لكن الله يحجب ذلك عن
أبصار الناس أي أكثرهم ، أما أهل الخصوصية من عباد الله الكاملين فيشاهدون
.
والحكمة في إخفاء الله حقائق أمور القبر وأمور الآخرة ليكون إيمان
العباد إيماناً بالغيب فيعظم ثوابهم وقد ورد في الحديث أن الرسول قال : ((
ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه )) رواه الترمذي والحاكم .
وقد روي أن سفيان الثوري رحمه الله قال :
(( من أكثر ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة ومن غفل عن ذكره وجده حفرة
من حفر النار )) وكان الربيع بن خيثم رحمه الله قد حفر قبراً في داره فكان
إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع فيه ومكث ساعة ثم قال : ] ربّ
ارجعونِ لعلي أعمل صالحاً فيما تركت
[ ( سورة المؤمنون / ءاية 99-100 )
ثم قال : يا ربيع قد أرجعت فاعمل الآن قبل أن لا ترجع ، فرحم الله أولئك
الرجال كم كانوا عظماء وكم كانوا خائفين من الله وكم كانوا عاملين للآخرة
زاهدين في الدنيا راجين رحمة ربّهم خائفين عذابه رزقنا الله الاقتداء بهم
ءامين .
عود الروح إلى الجسد في القبر
اعلم أنه ثبت في
الأخبار الصحيحة عود الروح إلى الجسد في القبر كحديث البراء بن عازب رضي
الله عنه الذي رواه الحاكم وأبو عوانه وصححه غير واحد وفيه ويعاد الروح
إلى جسده .
وأما حديث ابن عباس مرفوعاً : (( ما من أحد يمر بقبر
أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ))
رواه ابن عبد البر وعبد الحق الإشبيلي وصححه .
ونحن نؤمن بما ورد
في هذا الحديث ولو لم نكن نسمع ردّ السلام من الميت لأن الله حجب عنا ذلك
ويتأكد عود الحياة في القبر إلى الجسد مزيد التأكد في حق الأنبياء فإنه
ورد من حديث أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام : (( الأنبياء أحياء في
قبورهم يصلون )) رواه البيهقي .
إثبات عود العقل إلى الميت في القبر
فعن
عبد الله بن عمرو أن رسول الله ذكر فتَّاني القبر فقال عمر بن الخطاب رضي
الله عنه : أترد علينا عقولنا يا رسول الله قال : (( نعم كهيئتكم اليوم ))
قال : فبفيه الحجر ، ومعنى الفتَّان الممتحن ، منكر ونكير سُمّيا بذلك
لأنهما يمتحنان الناس ولأنهما مخوفان فقد ورد في الحديث الذي رواه ابن
حبان أن الرسول قال :
(( إذا قُبر الميت أو الإنسان أتاه ملكان أسودان
أزرقان يقال لأحدهما منكر وللآخر نكير فيقولان له ما كنت تقول في هذا
الرجل محمد )) ...
الحديث ، وقوله رضي الله عنه : أترد علينا
عقولنا يعني السؤال فقال له الرسول : (( نعم كهيئتكم اليوم )) أي يكون
الجواب من الجسم مع الروح فقال عمر : فبفيه الحجر ، أي ذاك الخبر الذي لم
أكن أعرفه وسكت وانقطع عن الكلام معناه ليس له حُجّة على ما كان يظن ، هو
كان يظن أنه لا ترد عليهم عقولهم فلما قال له الرسول بأنه تُرد عليهم
عقولهم عرف خطأ ظنّه .
واعلم يا عبد الله أنه بعد دفن الإنسان
يأتيه ملكان أسودان أزرقان أي لونهما ليس من السواد الخالص بل من الأسود
الممزوج بالزرقة وهذا أخوف ما يكون من الألوان حتى يفزع الكافر منهما ،
أما المؤمن التقي لا يخاف منهما ، الله تعالى يثبته يلهمه الثبات وهما لا
ينظران إليه نظرة غضب .
أما الكافر يرتاع منهما وقد سميا منكراً
ونكيراً لأن الذي يراهما يفزع منهما وهما اثنان أو يكون هناك جماعة كل
واحد منهما يسمى منكراً وجماعة كل واحد منهما يسمى نكيراً ، فيأتي إلى كل
ميت اثنان منهم واحد من هذا الفريق وواحد من الفريق الآخر .
وليعلم
أن مُنكِر سؤال الملكين منكر ونكير عناداً كافر . الله يثبتنا عند سؤال
الملكين بجاه سيد الكونين سيدنا محمد وبجاه المرسلين والملائكة المقربين
والأولياء و الصالحين .